فصل: تفسير الآيات (128- 129):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (126- 127):

{وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)}
قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ} الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الامداد، ويدل عليه {يُمْدِدْكُمْ} أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى، لأن خمسة آلاف عدد. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله، كقوله: {وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً} [فصلت: 12] أي وحفظا لها جعل ذلك. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين، لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران. {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالقتل. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع.
وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع. ويجوز أن يكون متعلقا ب {يُمْدِدْكُمْ}، أي يمددكم ليقطع. والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره. السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا. ومعنى: {يَكْبِتَهُمْ} يحزنهم، والمكبوت المحزون.
وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: «ما شأنه؟». فقيل: مات بعيره. وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة يكبدهم أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سبت رأسه وسبده أي حلقه. كبت الله العدو كبتا إذا صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وتقول العرب للعدو: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم ** هم الأعداء والأكباد سود

كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت. وقرأ أبو مجلز {أو يكبدهم} بالدال. والخائب: المنقطع الأمل. خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. والخياب: القدح لا يوري.

.تفسير الآيات (128- 129):

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلب الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى» فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. الضحاك: هم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فهداهم الله للإسلام. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قيل: هو معطوف على {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}. والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون {أو} هاهنا بمعنى حتى وإلا أن. قال امرؤ القيس:
... أو نموت فنعذرا

قال علماؤنا: قوله عليه السلام: «كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم» استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكي عنه، بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم! فقال: «إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعلنه له ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». وقوله: «أشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم» يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوصي في المباشر، لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم.
الثانية: زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: «اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة- ثم قال- اللهم العن فلانا وفلانا» فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الامر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الامر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الامر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، والله أعلم. وبين بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أن الأمور بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم.
الثالثة: وأختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها، فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي.
وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة.
وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة.
وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، قاله الشافعي والطبري.
وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي.
وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا.
وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو، وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد ابن عبد العزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع، وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الاربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا.
وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك.
وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا.
وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فاؤ ما إليه أن اسكت فسكت، فقال: «يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون» قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق».

.تفسير الآيات (130- 132):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قصة أحد. قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا.
قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً}. قلت وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي، لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا، لأنه كان معمولا به عندهم. والله أعلم. و{أَضْعافاً} نصب علي الحال و{مُضاعَفَةً} نعته. وقرئ {مضعفة} ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ كما تقدم في البقرة. و{مُضاعَفَةً} إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في أموال الربا فلا تأكلوها. ثم خوفهم فقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي} قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن أستحل الربا، ومن أستحل الربا فإنه يكفر ويكفر.
وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الايمان فتستوجبون النار، لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الايمان ويخاف عليه، من ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة، فقيل له عند الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه. ومن ذلك قطيعة الرحم واكل الربا والخيانة في الأمانة.
وذكر أبو بكر الوراق عن أبى حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الايمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الايمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للايمان من ظلم العباد.
وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية، لأن المعدوم لا يكون معدا. ثم قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} يعني أطيعوا الله في الفرائض {وَالرَّسُولَ} في السنن: وقيل: {أَطِيعُوا اللَّهَ} في تحريم الربا {وَالرَّسُولَ} فيما بلغكم من التحريم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي كي يرحمكم الله. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (133):

{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَسارِعُوا} قرأ نافع وابن عامر {سارِعُوا} بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ باقي السبعة {وَسارِعُوا}.
وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلانه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلان الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو. والمسارعة المبادرة، وهي مفاعلة.
وفي الآية حذف. أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة. قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير: {سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: معناه إلى تكبيرة الإحرام.
وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. عثمان بن عفان: إلى الإخلاص. الكلبي: إلى التوبة من الربا.
وقيل: إلى الثبات في القتال. وقيل غير هذا. والآية عامة في الجميع، ومعناها معني {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} [البقرة: 148] وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} تقديره كعرض فحذف المضاف، كقوله: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} [لقمان: 28] أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا ** وما هي ويب غيرك بالعناق

يريد صوت عناق. نظيره في سورة الحديد {وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] واختلف العلماء في تأويله، فقال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض». فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله.
وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض.
وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
وفي الصحيح: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثال» رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره.
وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار». وبمثل هذه الحجة أستدل الفاروق على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} فأين النار؟ فقالوا له: لقد نزعت بما في التوراة. ونبه تعالى بالعرض على الطول لان الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقول تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن واتقن من البطائن. وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة، قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة ** على الخائف المطلوب كفّة حابل

وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض، كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السموات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء، لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء، لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة.
وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة. قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد. قال ابن عطية: وقول ابن فورك يزاد فيها إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة.
قلت: صدق ابن عطية رضي الله عنه فيما قال: وإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فالجنة ألان على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السموات والأرض، إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم. ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد. وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته، ولا غاية لسعة مملكته، سبحانه وتعالى.